مقالات

المصري اليوم 

رضا البهات يكتب : هل يغير المصريون دينهم للمرة الرابعة ؟

إحدى سمات التاريخ المصرى أنه تاريخ التحولات الروحية. يحدث هذا التحول حيث يصير الدين القديم عاجزاً عن تلبية احتياجاتهم الدنيوية- وليس حين يصبحون فقراء- تأسيساً على قاعدة أن الدين فى خدمة الحياة.. وليس الحياة فى خدمة الدين ورجاله. باستثناء فترات الانحطاط، تلك هى علاقة المصريين بأى دين. يحدث هذا طبعاً بعد محاولات مستميتة لإنقاذ الدين القديم. الذى يكون حضوره قد ضعف فى ضمائر عامة الناس، فيدعم كل من الناهب والمنهوب سلوكه بنصوص دينية. كذا يفعل الحاكم والمحكوم، ويصبح الدين القديم أداة للاستخدام من جانب كل شخص ليبرر سلوكه ومصالحه.

هكذا تخلى المصريون عن ديانتهم المليئة بالآلهة، ديانة آمون الكبير قبل إخناتون، ولم يحتفظ لهم الأخير من الآلهة القديمة سوى بـ«معت» التى تمثل العدل والضمير، واستمر الدين الشعبى فى تقديسه لإيزيس وأوزوريس فى مواجهة «ست»، إله الصحراء والجدب والموت. فكان التوحيد أساس الدين الرسمى، والتثليث أساس الدين الشعبى، مما مهد للتحول إلى المسيحية، وبنفس الطريقة انتقل إلى الإسلام. فى كل مرة كانت اللغة أيضاً تتغير، فما الذى يجرى اليوم؟ وتركيزنا على مصر بالطبع.

اليوم تسود الوهابية التى تُعد إسلامياً مذهباً واحداً ضمن ثمانية عشر مذهباً (الشيعة والقاديانية والدرزية والبهائية والإباضية… إلخ)، جاعلة مرة ثانية الإنسان والحياة برمتها فى خدمة النصوص. كما فهمها ابن حنبل وابن تيمية قديماً. سادت بعدما أرست نظاماً قوامه العبودية. وبعدما فشلت الدولة الوطنية الحديثة التى ورثت الطغيان والديكتاتورية. ثم تدعم انتشارها بعد ذلك بأموال النفط. والمعنى أنها صنعت تاريخياً نظاماً سياسياً. ربما ذلك ما قصده الكواكبى حين تحدث عن «الاستبداد والدين»، وباختصار مخل بالضرورة أضيف.. هو نفسه ما نهضت عليه مشاريع كبيرة فى المغرب العربى وفى مصر مشاريع تتراوح بين فكرتين: القطيعة مع الماضى كله، أو مقاومة التراث القديم بالتراث القديم.. استبدال التراث المظلم بالتراث المضىء. عموماً فى هذه العتمة التاريخية قاربت الوهابية أن تشكل وحدها ديناً مستقلاً إلى أن «لبس الجميع فى الحيطة». وإلى حد أنها صارت الفكر التنظيمى للإخوان والسلفيين وبالمرة الكثير من عامة الناس. وإلى حد أننى كنت أرافق أحد الزعماء الدينيين المتحضرين فى عربته إلى المنصورة، وسألنى سؤالاً ذا دلالة: عمرك شفت سنة مش وهابية؟!

عموماً ظلت الثقافة الشعبية للمصريين على مر الزمن تتمم القواعد الدينية بإضافات لها قوة القانون، كالأعراف والأمثلة الشعبية، لتخدم فكرة الاستمرار. بهذا أبقوا على الاحتفال بأعياد كثيرة. وبها أقاموا الأضرحة وجعلوا لكل ساكن ضريح عيداً- لذا يحاول الوهابيون هدمها اليوم- وبها أقاموا الموالد. وبها أيضاً سكوا أمثالاً يتصدون بها لكهنوت رجال الدين ومَن ينسب نفسه إلى السماء لنيل حظوة ما على الأرض. وهاك بعض الأمثال: «اللى يحتاجه البيت يحرم على الجامع»، و«قال شحَّتونى أنا ابن أخت ربنا قالوا خالك أغنى مننا». وأيضاً «قال بَيِّتونى حداكو أنا ابن ربنا، قالوا له دار أبوك أوسع من عندنا».

يقال أيضاً: «جوز الاتنين يا قادر يا فاجر»- بغض النظر عن وجود مسوغ دينى للزواج المتعدد- ويقال: «بركة يا جامع اللى جت منك ولا جتش منى».. وهكذا.

لكن ها هى الوهابية تحتل المساحة من جديد فى نصف القرن الأخير- شعبياً هذه المرة- بعدائها لمظاهر الحياة لحساب النص والشكل. ولتنتج بشراً بلا ضمير يخشون القانون فى العلن فقط (يخافوا ما يختشوش)، وتنتج تنظيمات تعمل بين الناس كدولة موازية. تُراكم المال وتستبيح الآخرين وتُكفرهم. وكلها مفاهيم تهدم الأساس الذى قامت عليه الثقافة المصرية.. أى الضمير، وأن الأديان جميعاً فى خدمة الإنسان وسعادته. والمعنى أن نصف القرن الأخير كان زمن انحطاط جديد.

الآن.. ألا يمكن القول إنه وإن كان ظاهر الثورتين (فى 25 يناير، 30 يونيو) هو إزاحة حاكمين ونظامين، فالمصريون يصرخون بحاجتهم إلى ثقافة جديدة. أو ما يسميه بتوع علم النفس الاجتماعى «نبضة تطورية جديدة»، إذ لم يعد القديم قادراً على إمدادهم بالقدرة على الاستمرار، وإلا فما معنى تصريح شيخ الأزهر مثلاً بأن ملايين الشباب يعلنون اليوم بصراحة «لا دينيتهم» على النت. ناهيك عن الهستيريا التى أصابت الوهابيين بحيث جعلتهم يُكفرون كل البشر.. فتفجير هنا وذبح هناك. وأيضاً هستيريا الفتاوى الفارغة والاشتغالات التى لم يعد يعمل بها أحد.

الآن.. هل سنظل ندور فى ذات الدائرة المفرغة، عبر إصلاح القديم بالقديم؟! يعنى استبدال الخطاب السائد بآخر أفضل شوية.. بالتخلى عن الوهابية لحساب مذهب آخر لنظل كمَن يحرث فى البحر. أم نختار ثقافة جديدة تناسب العصر بمعنى دولة مدنية (لا دينية ولا عسكرية) تؤمن بحرية العقيدة. والدين فى كل الحالات محفوظ لا يملك أحد إهداره!، بمعنى أوضح.. صياغة علمانية مصرية خالصة!.

كانت آخر ورقة بحثية للمرحوم د. عبدالباسط عبدالمعطى مقدمة لأحد المؤتمرات قبيل 25 يناير 2011 مباشرة ذات عنوان دال.. وطبعاً لم يهتم بها أحد. عنوانها «تحييد الفكر الدينى، لا تجديد الفكر الدينى».