مقالات

الأهرام 

د. يسري عبد الله يكتب / السيدة القوقازية .. رواية التحولات 

ربما يحيل عنوان رواية “السيدة القوقازية” للكاتب الروائى عامر سنبل، والصادرة فى القاهرة حديثا عن دار “بدائل”، إلى “شجرة الدر” زوجة الصالح نجم الدين أيوب التى حكمت مصر، وفى أيامها هُزم لويس التاسع ملك فرنسا، الذى تم أسره وأودع دار ابن لقمان فى المنصورة، ومن ثم نحن أمام رواية يؤشر عنوانها على شخصية تاريخية، ليست متنا للرواية، لكنها تحيل بدورها إلى المكان المركزى فى النص”المنصورة” بتاريخها وطبقاتها الحضارية، وتنوعها الخلاق: “أُلقى القبض على لويس التاسع فى فاراسكور وهو يجرى فزعا فى شوارعها، لم يجد من يعصمه من الأسر، اعتقلوه فى دار ابن لقمان، على مرمى حجر من الطميهى، ثلاثة آلاف أسير لم يجدوا فى فرنسا من يستردهم، فبقوا فى المدينة، قدموا لهم الطعام والمأوى، امتزجوا وتعايشوا مع سكانها الشجعان..”. 

 

تلوح المنصورة بوصفها فضاء ماديا ونفسيا فى آن، مكان تخلقه الدهشة، ويصبح امتداده الحضارى وجها من وجوهه اللامعة، مثلما تصبح تحولاته المختلفة هاجسا مركزيا للسرد، وتبدو تيمة “التغير” تيمة جوهرية فى الرواية، يقدمها الكاتب عبر مجموعة من الحكايات المتداخلة التى تشكل جدارية السرد فى الرواية، وتصبح عائلة عاشور النبراوى بؤرة السرد داخل النص، إنها مركز الحكى وجوهره فى آن، وعبر تبدلاتها المتعددة، والانتقالات الحياتية التى تمر بها، تتجلى جملة التحولات السياسية والثقافية فى المنصورة/ المكان المركزى فى الرواية، ويتجادل الشخوص مع المكان فى النص، وتصبح تحولات الشخوص متقاطعة مع تحولات الأمكنة، ويشكل الاثنان فضاء التحول الاجتماعى داخل الرواية، فعاشور النبراوى الذى أحال دكان والده المعدم عثمان النبراوي، إلى “ بقالة أولاد النبراوى الكبرى”، جراء مهارته فى تعلم أصول البيع والشراء فى المحلات التجارية التى عرفها من “الخواجة اليونانى” الذى عمل لديه فترة وهو صغير، ووصولا إلى تحول البقالة إلى “ سوبر ماركت أولاد النبراوي” فى عهد عبدالهادى صاحب النصيب الأوفى فى المحل بعد اختلاف الورثة وبيعهم ما يخصهم إليه، وفى كل تحول من هذه التحولات يلوح زمن ما، يمثل الإطار السياقى للحكاية، أو يمثل ذلك الزمن المرجعى للنص، فالسوبر ماركت مثلا، يبدو قرينا لزمن الانفتاح الاقتصادى الذى يدينه السارد الرئيسى فى الرواية فى أكثر من موضع. 

 

تتشكل الرواية من عشرة فصول سردية، ويتشكل كل فصل منها من عدد من المقاطع السردية المرقمة “1، 2، 3،..”، ويبدو الكاتب مولعا بتقنية التداعى الحر، ولذا تتواتر المقاطع السردية، وتتداخل الحكايات فى النص، الذى يعتمد على آلية التوالد الحكائي، فالحكى عن الثرى العربيد عزمى العزازى يستدعى الحكى عن الراقصة خضرا التى صارت فيما بعد “بثينة”، وزوجها المخنث سامى عاشور، والحكى عن خليل عاشور يستلزم الحكى عن زوجته التى يستسلم لمطامحها فى النهاية فى أن تصير سيدة أعمال تتاجر فى كل شيء وأى شيء، ويصبح الحكى عن أوليفيا ابنة عاشور النبراوى دافعا للحكى عن محمود حمدى المسرحى الذى خانه فنه، قبل أن تتركه زوجته لتتزوج من أستاذها الأكاديمى سليم صبحي، نحن إذن أمام جملة من الحكايات المتداخلة لشخوص مأزومين، على حافة التصدع والانهيار، فى واقع كابوسى على الرغم من عاديته التى يقدم بها، تتجلى قسوته المفرطة فى القدرة الدائمة على قنص الحلم. 

 

يتجادل السياسى والفنى فى الرواية، وتصبح سناء عاشور نموذجا دالا على تشوهات مجتمعية خانقة، يتحالف فيها الاستبداد مع الفساد مع الرجعية، وتصبح سناء الشغوف بمشاعر دينية غضة وساذجة متورطة مع إرهابيين بحق، ويصبح “علي” ترميزا على خيانة مكرورة ووعى كاذب بالعالم، خاصة بعد أن هيمنت عليه مظاهر التدين الزائف، وتحول إلى محض شيخ لحيم، وتبدو قراءات سناء بائسة للغاية، ويبدو العالم الذى تتوق إليه رجعيا بامتياز، مثلما يظل السياق المهيمن استبداديا، يتجلى فى أسئلة المحقق المستمرة فى جملة من الحوارات السردية الدالة والجيدة فى الرواية. 

 

تتناثر عناصر الثقافة الشعبية فى الرواية، بدءا من التصدير الدال للرواية، فعلى الرغم من أنه يحيل إلى بيت من الشعر الكلاسيكى الفصيح لأحمد شوقى إلا انه يحمل هذه الروح الشعبية الشغوف بالمرأة والمتعاطفة معها: “ اتقوا الله فى قلوب العذارى/ فالعذارى قلوبهن هواء”، كما نرى بعض العبارات العامية المتداولة التى صارت مثلا سائرا، أو الاعتقادات الشعبية باستيلاء الجنى على جسد المرأة، مثلما حدث مع زوجة المأمور!. 

 

تبدو المنصورة مكانا للقيا، وتعبيرا رفيعا عن مدينة “كوزمو بوليتانية” فى الدلتا المصرية، تختلط فيها الأعراق والثقافات، وتصبح أوليفيا عاشور حلقة الوصل بين الماضى والراهن، فأوليفيا التى سماها أبوها على اسم ابنة صاحب العمل اليونانى الذى كان يعمل لديه، تدرس الفلسفة، لكنها لم تتخلص قط من براجماتية واضحة، ويبدو جمالها المنزوى فى نهاية الرواية وهى تحضر عزاء زوجها السابق محمود حمدى علامة على تصدع زمن وتداعيه. 

 

وبعد.. تعد رواية السيدة القوقازية لعامر سنبل رواية مكتنزة ومحملة بطبقات معرفية وجمالية مختلفة، تتجادل فيها الحكايات الرئيسية مع الأخرى الفرعية فى بناء سردى عرف الاستطراد المجانى أحيانا، وكان بحاجة إلى ترتيب أكثر حرفية للفصول ومقاطعها السردية فى أحيان ثانية، وإن ظل للسرد حضور مشوق وأخاذ فى استجلاء ملامح مكان خصب ودال ومتنوع.